"بائعة الكعك"
وبعد مرور عامين على وفاة زوجته التي تركت له نجمة صغيرة تُدعى صوفي ، قرر أخيرا السيد عمر الزواج ...كان طول هذه المدة لا يفكر في الأمر لأنه كان يخاف على ابنته ...كان يميل لإحدى زميلاته في العمل التي كانت تعجبه كثيرا ...إمرأة في السابعة والعشرين ربيعا... جميلة المظهر ،حسنة الخُلُق، ومثقفة ...أراد أن يفتح الموضوع مع ابنته الصغيرة ...لكنه كان يترصد الفرصة المناسبة لفعل ذلك
...كانا عائدين ذات مساء بالسيارة الى البيت ...وحينها أخبر نفسه أنه عندما يأخد صوفي الى سريرها لتنام سيخبرها بالموضوع ...وهو شارد في تفكيره نسي التوقف عند الخالة إلهام التي تبيع الكعك عند ناصية الشارع الذي يسكنونه
لتنبهه الاميرة صوفي قائلة..
"ابي لقد تجاوزت الخالة إلهام..اشتقت لكعكها"
" اعذريني يا صغيرتي لقد سهوت قليلا سأرجع للخلف"
الخالة إلهام هي إمرأة مسكينة ..أحكمت عليها الظروف من كل جانب ...جميلة بطريقة بسيطة ولها وجه بشوش..رغم أن العمل الدائم وإهمالها لنفسها جعلها تظهر كبيرة في السن ،رغم أنها لم تتجاوز الثلاثة والعشرين عاما....
توقفت السيارة قبالة الخالة ..لتخرج صوفي راكضة إليها بلهفة عارمة...والأب يراقبها ويتذكر عندما كانت تركض نحو أمها ، كفرس صغير ...
أخدتها الخالة إلهام في حضنٍ طويل ..حتى وصل الأب اليهما فألقى التحية ...ردت عليه الهام كالعادة بوجهها البشوش الذي تزين خجلا
فسألها عن حالها وعن حال والدها المريض... فأجابته تلك الاجابة المشفرة ..
"كل شئ على مايرام الحمد لله"
.حينها كانت صوفي تستمتع بالنظر الى الأشكال المختلفة للكعك الشهي..فنطقت فجأة وبصوت عالي
"أبي أريد الكعك من كل نوع"
..ثم هرعت نحو الخالة إلهام مرة أخرى وهي تمسك ثيبها و تقول بعفوية ...
"أتقبلين أن تكوني أمي"
بقي الأب مصدوما لثواني..
لتنقذ إلهام الموقف بذكاء ، برفعها لصوفي من على الارض نحو حضنها وهي تخاطبها...
" وهل تقبلين أنت أن تكوني أمي ،فأنا أيضا ليس لدي أم "
ردت صوفي وهي تضع يديها حول عنق إلهام ...
نعم أقبل ..
ثم ارتمت بحضنها ..لتقبلها هذه الأخيرة بكل حب وصدق وهي تخبرها
"من اليوم فصاعدا ..أنت أمي الحبيبة وأنا أمك الحنينة "
بقي الأب منبهرا ..لهذا الموقف ...تلك الليلة بقي تفكيره مشغولا
تذكر كيف تعلقت صوفي أول مرة بإلهام ..لقد كانت هذه الأخيرة تعامل الأطفال معاملة خاصة ..فكانت عندما ترى طفلا مع أهله تكلمه بطريقة طفولية فيها تعبير خالص عن روحها النقية ...وقبل أن ينصرفوا من عندها .. تفتح علبة كبيرة ، مكتوب عليها بالخط العريظ خاص بالملائكة ..فتعطي الطفل حلوة جميلة و مزينة بألوان تجعلك تتمنى ان تصبح طفلا لتحصل على واحدة ...فصوفي حين أعطتها تلك الحلوة السحرية..لم تتوقف عن ذكرها ،و منذ ذلك الحين ونحن نشتري الكعك منها ...
فكر كثيرا في إلهام، إنها حقا قمر مضيئ بمعنى الكلمة...وابنته تحبها كثيرا...وفكر طويلا وبعيدا...فقرر تلك الليلة أنه سيطلب الزواج من بائعة الكعك...فرغم الفوارق الإجتماعية، إلا أنه كان واعيا وغير أناني خاصة مع ابنته...صحيح أن إلهام ليست فاتنة بالشكل المتداول ،وليست من نوعه المفضل ..لكنه يؤمن أن الاطفال يحبون الاشخاص الاكثر نقاءا وان اختيار صوفي حكيم وصائب اكثر من اختياره ..
تفاجأت بائعة الكعك بعرضه ..فأخبرته أنها موافقة لكن بشرط، و هو أن تأخد أباها معها
فأردفت :
"... فكما تعلم... فلقد تخليت عن حياتي وعن شبابي من أجل رعاية أبي ..ولا يمكن ان أتخلى عنه الأن "
كاد عمر يذرف الدموع لولا أنه قاوم مشاعره
وفي نفس الوقت علا شأن هذه الإنسة عنده
ليرد عليها دون تردد
"وأنا قبلت الشرط..."
تزوجت بائعة الكعك بالدكتور عمر ...وأخدت والدها المريض معها و الذي توفي بعد سنة من زواجها...
و أصبحت صوفي أسعد الأطفال وتستمتع بشتى أنواع الكعك.... والأب تيقن أنه تذوق الحب الحقيقي مع هذه السيدة ...والسيدة إلهام رفعت كفيها حامدة ربها على جزائه بعد صبرها وعلى الأسرة العظيمة التي تملكها....
هناك أشخاص مخفيون يملكون مفتاح السعادة لكننا لا نستطيع رؤيتهم وسط ازدحام المظاهر ...لكن روح الأطفال تكشفهم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق